ورقة إثرائية من الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين أما بعد:

فما بين أيديكم هو ورقة تتضمن تصوراً للحلول ولا تقدم الحلول لمشكلة هي من أعتى وأقدم مشكلات البشرية وهي الفقر، والفرق بين كما يبدو لي بين من يقدم الحل وبين من يتصوره.

فمن يقدم الحل يزعم أنه أحاط بالمشكلة من جميع أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والعقائدية والنفسية، وبنى ما لديه من حلول على مقدمات من هذه الإحاطة وعلى دراية وافية بالعلوم اللازمة لفهم تلك الأبعاد ومعالجتها واستنتاج الحلول من خلالها.

أما من يقدمون تصورات الحلول وهم الفئة التي أزعم أنني أنتمي إليها في ورقتي هذه، فهم اللذين يعيشون المشكلة ويعرفون أبعادها لكنهم لا يحيطون بها إحاطة دراسة وتدبر، ويرون أن تلك المعايشة وهذه المعرفة كفيلة بأن تمكنهم من تقديم مفاتيح ورؤى قد تفيد أصحاب الحلول في التوجه مباشرة إلى مواضع الداء ومكامن الدواء.

لكنني وأنا أعد لكتابة هذه الورقة التي تعالج ظاهرة الفقر بدا لي: أن الفقر في المعلومات الصحيحة عن الفقر، والفقر أيضاً في الدراسات التي تعالجه في بلادنا اقتصادياً واجتماعياً أكبر خطراً من الفقر ذاته، وهذه دعوة أطرحها في مقدمة مقالتي هذه للالتفات لهذه الظاهرة بالدراسة الواعية، والمبادرة بعقد المؤتمرات العلمية المتخصصة في دراستها ورفع التوصيات العاجلة إلى قيادتنا لاتخاذ التدابير النظامية لوأدها.

الطريق الصحيح للقضاء على الفقر:

بالرغم من أن الفقر مرض بشري مزمن تتوارثه أجيال الإنسان منذ قديم الزمن فإن الذي أستيقن منه: أن أمره لا يعدو كونه مكروباً، سرعان ما يموت حين تتخلف الظروف البيئية المناسبة لبقائه.

ولو أن البشرية كتبت تاريخها الاجتماعي، كما كتبت تاريخها السياسي لكان من المتصور أن نجد أحوالا كثيرة نجح الإنسان فيها في قتل هذا المكروب بتغيير الأجواء المناسبة لعيشه.

لكننا مع الأسف لا نجد فيما هو مكتوب بين أيدينا إلا فترات وجيزة في تاريخ الإنسان الطويل مثل عصر عثمان بن عفان وعصر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم وعصر عمر بن عبد العزيز وعصر يوسف بن تاشفين في المغرب وعصر أورنك زيب في الهند عليهم رحمة الله.

وحتى هذه العصور لم تؤرخ لنا بالشكل الذي يوحي بأنها تجربة اقتصادية يمكن تقليدها أو تطويرها بل هي إما مروية على شكل خبر عابر لا يختلف عن خبر أي معركة خاضها أولئك الزعماء، أو متروك أمر استنباطها للقارئ من خلال سبره عدداً من جزئيات الأحداث.

وفي عصرنا الحاضر عصر التقنية والمعلومات وفورة الاقتصاد وحقوق الإنسان لا يختلف الحال عما كان عليه في التاريخ السحيق، فالتجارب التي قضت فيها الإنسانية المعاصرة على الفقر تجارب نادرة أو قل معدومة حتى في تلك الدول التي تفرض الضرائب على الناس لتقدمها لهم على شكل خدمات ملموسة وتفرض للعاطلين والمحتاجين دخلاً استثنائياً كحل مؤقت لمطالبهم.. وكان أحد علمائنا الأجلاء المعنيين بالمسائل الاقتصادية قد قدر زكاة أموال السعوديين بستة وثلاثين مليار ريال، هذا في حال لو أُديت كما ينبغي، وتحدث الكثيرون عن إثر ذلك على الزكاة في المملكة العربية السعودية وأنها لو أُديت على وجهها الصحيح لقضت على الفقر في بلادنا قضاء مبرماً.

القضاء على الفقر ليس مهمة الزكاة وحدها، أو بعبارة أدق ليست الحكمة من فرض الزكاة هي القضاء على الفقر، بل المساهمة في تعجيل القضاء عليه وجعل هذه المهمة أكثر سهولة ويسراً

والذي يظهر لي أن تلك النتيجة التي خلص إليها هؤلاء الإخوة تحتاج إلى مزيد مراجعة فنحن في المملكة حتى هذا اليوم –حسب علمي- ليس لدينا تقدير دقيق لعدد الفقراء في بلادنا، ويخمن البعض عددهم بمليون فردن وهو تخمين غير منضبط بتعريف دقيق للفقير أو حد أدنى للفقر.

وحين نغص الطرف عن الدقة التي يحتاجها الباحث للوصول إلى نتيجة تحدد الأثر الحقيقي للزكاة ونستسلم لتخمين المليون فقير، سنجد أن ستة وثلاثين ملياراً لا يمكن أن تكون مجدية للقضاء على وجود الفقر لسبب واضح وهو أن نتيجة قسمة هذا المبلغ الكبير على هذا العدد الغفير ستوصلنا إلى أن دخل الفقير الشهري من الزكاة سيكون ثلاثة آلاف ريال فقط، وهو مبلغ لا يمكن أن يقال إنه يوصل إلى النتيجة المرجوة.. وحين نعتمد نتيجة الدراسة التي أشرف عليها الدكتور راشد الباز من جامعة الإمام محمد بن سعود، نجد أن هذا المبلغ الذي توفره الزكاة لا يصل لحد الكفاف للأسرة الصغيرة المكونة من زوجين وطفلين حيث قررت الدراسة أن حد الكفاف لهذه الأسرة هو 36934 ومع ملاحظة أن هذه الدراسة كانت سنة 2005 ونحن في سنة 2013 وبحساب نسبة التضخم العامة والتي تتجاوز قليلاً الخمسة في المائة سنجد أن حد الكفاف قد ارتفع حتماً إلى ما يقارب الخمسة آلاف ريال.

وهذا الأمر ليس غريباً أبداً لأن القضاء على الفقر ليس مهمة الزكاة وحدها، أو بعبارة أدق ليست الحكمة من فرض الزكاة هي القضاء على الفقر، بل المساهمة في تعجيل القضاء عليه وجعل هذه المهمة أكثر سهولة ويسراً. أقول ذلك لأنني أرى أن هناك رؤية يتوافق فيها الرسمي مع الشعبي بأن حل مشكلة الفقر في بلادنا يتلخص في الزكاة أو الضمان الاجتماعي أو الإعانات الدورية تحت مسميات مختلفة كصندوق الفقر، أو حتى دون أي مسميات.

وأجد أن العمل يجري رسمياً وشعبياً وفق هذه النظرة وحدها دون الالتفات إلى تاريخ الزكاة والضمان الاجتماعي عبر عقود من نشأة الدولة والذي يفيد أن الفقر بالرغم منهما في ازدياد مطرد.. أما النظرة التي يبدو لي أنها صحيحة فهي: أن القضاء على الفقر يحتاج إلى القضاء على جميع الأسباب الداعية إلى تكونه في مجتمعنا، وهي أسباب يمكن أن يدركها الملاحظ من النظرة الأولية كما سأفعل في هذه الورقة.

لكن النظرة الأولية لا تكفي فالمسألة خطيرة جداً وفي حاجة إلى دراسات يتكاتف فيها الاجتماعي مع الاقتصادي للوصول إلى نتائج علمية ينبني عليها قرارات مصيرية في حق الدولة ونظامها الاقتصادي بالكامل وأيضاً في حق الشعب وسلوكياته التربوية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً، فالفقر ابن بيئة سيئة تتلخص معالمها في أمور منها:

1. سوء الثقافة الاستهلاكية: والتي أنتجت عادات سرفية فرضت نفسها على جميع طبقات المجتمع المادية وأصبح تسابق الناس إليها يؤدي إلى نفاد ما بأيديهم من المال قل دخلهم أم كثر، بل إن صاحب المرتب العالي يشتكي سرعة نفاد مرتبه، وهي ذات الشكوى التي نسمعها من صاحب الدخل المنخفض.

2. بطالة الشباب: والتي لها وحدها قصة أخرى في أسباب نشوئها وتفاقمها وطرق علاجها.

3. غياب البيت عن مركزية الإنتاج حيث أصبحت البيوت عبارة عن أفواه تأكل كل ما قدم لها، بعد أن كانت مراكز تؤدي واجبها في إمداد المجتمع بما يحتاجه من غذاء ولباس ودواء وأثاث، وهي علة العلل إلا أن أحداً لم يُعلن عنها بسبب الترويج الممل لقضية حق المرأة في العمل خارج بيتها..

4. وهو آخر ما سأضمنه هذه الورقة من معالم بيئة الفقر: انتشار بعض القيم الاقتصادية الرأسمالية ودخولها للأسف في منظومة النظم الاقتصادية في المملكة العربية السعودية. وحين نصبو إلى مصرع الفقر لابد من القضاء على أسبابه.

الفقر الصناعي والفقر الطبيعي:

حين نريد سقاية مزروعاتنا بشكل جيد لابد من اجتثاث النباتات الطفيلية التي تقتات من مائها وتعيق نموها. وحين نريد علاج الفقر في مجتمعاتنا لابد أن نعلم أن هناك فقراً نشأ بشكل طبيعي نتيجة زيادة التضخم وضعف سوق العمل وزيادة النمو السكاني أو غير ذلك من العوامل الاقتصادية والاجتماعية المسببة للفقر.

وهناك فقراً طفيلياً نبت في قيعان أحواض الفقراء ليستقي من مائهم، ولابد من اجتثاثه ليصل الماء كاملاً إلى الفقراء الحقيقيين الذين هم مشروعنا وموضع عنايتنا هنا.

والفقراء الصناعيون أو الطفيليون أصناف عدة، لكل صنف منهم قصته التي لا يعني اجتثاثنا له من حياض الفقراء إهمالنا لها، بل يعني أننا نأخذه من المكان الخطأ لنعالج مشكلته في مكانها الصحيح. ومن هؤلاء:

• متعاطو المخدرات والمفترات والمسكرات بأنواعها، فهم يشكلون نسبة لا بأس بها ممن يدخلون هم وأسرهم اليوم في إحصائيات الفقر، وإذا كان المدمنون منهم يبلغون 140 ألفاً حسب تقرير نسبه موقع العربية نت لمركز الدراسات في غرفة الرياض، فقد يكون غير المدمنين أو المدمنون غير المسجلين إحصائياً أضعاف هذا العدد.

ولا شك أن تعاطي المخدرات والمسكرات بأنواعها من أسباب الفقر لاسيما لدى الطبقة المتوسطة، لكن هؤلاء ينبغي أن تُعالج مشكلتهم بعيداً عن ضمهم إلى إحصائيات الفقر الطبيعي والذي لا جناية على الإنسان في الابتلاء به.

ويجب أن ينصرف الجهد معهم إلى حماية البلاد من تدفق المخدرات إليها وإلى طرق الوقاية منها وعلاج المصابين بها.

إن تقسيم الفقر إلى طبيعي وصناعي وحل مشكلة كل نوع على حدة ضروري جداً إذا أردنا القضاء فعلياً على الفقر أو مقاربة القضاء عليه.

• الأرامل والمطلقات اللواتي نتج فقرهن عن توليهن لمسئولية إعالة أطفالهن، والصواب إسناد إعالة أطفالهن إلى المسئول الشرعي عنها، لأن المرأة ليست شرعاً مسئولة عن إعالتهم.

ومن هنا أؤكد على وجوب إصدار نظام للحقوق الاجتماعية يحمل على عاتقه إسناد المسئوليات الاجتماعية إلى المسئولين الشرعيين عنها فور استحقاقهم لها.

• المبذرون، وهم طائفة من الرجال لديهم المقدرة المالية على إعالة أسرهم لكنهم مصابون بداء التبذير وهو صرف أموالهم فيما لا طائل وراءه كالسفر ولعب القمار أو المشاريع التجارية الفاشلة وغير المدروسة.

وهؤلاء أيضاً يُعدون من صناع الفقر، ولهذا ينبغي معالجة مشكلتهم بعيداً عن الإستراتيجية العامة لمكافحة الفقر.

إن حل مشكلات هذه الأصناف ومن كان على شاكلتها من أصحاب الفقر الصناعي على حده سيقطع رافداً مهماً من روافد الفقر والفاقة في بلادنا، فوجود أمثال هذه الأصناف في إحصائيات الفقراء يُفسد أي إستراتيجية بعيدة المدى يمكن الشروع فيها للقضاء على الفقر. كما أن معالجة فقره ضمن قائمة الفقر الطبيعي كفيل بإبقاء مشكلاتهم الأصلية على حالها، فمتعاطي المخدرات ستكون الأموال المقدمة له لحل مشكلة فقره مورداً جديداً بالنسبة له يصرفه على موبقاته، وكذلك الأرامل والمطلقات العائلات لأبنائهن إذا لم يُرفع الظلم عنهن وتُسند المسئولية المالية عن أطفالهن إلى المسئولين عنها شرعاً فالعائد عليهن من المال سيبقى ذريعة لاستمرار وقوع الظلم عليهن واستمرار تكرار المشكلة بل وتناميها، والأمر كذلك فيما يتعلق بأهل السرف والتبذير وسوء التدبير.

وفي ظني أن فشل الضمان الاجتماعي في تحقيق مقاصده بل وفشله في الوصول بالمستحقين إلى حد الكفاف فضلاً عن إغنائهم من أسبابه دخول هذه العناصر في قوائم الضمان وهدم حل مشكلاتهم بمعزل عن الفقر الطبيعي.

إن تقسيم الفقر إلى طبيعي وصناعي وحل مشكلة كل نوع على حدة ضروري جداً إذا أردنا القضاء فعلياً على الفقر أو مقاربة القضاء عليه.

العناصر المكونة للفقر الطبيعي:

بعد أن تحدثنا عن الفقر الصناعي وضرورة عزله في الحلول عن الفقر الطبيعي ومكوناته، أتحدث هنا عن مرادي بالفقر الطبيعي. الفقر الطبيعي هو عجز الإنسان عن توفير المال اللازم لاستيفاء مطالبه الضرورية والحاجية دون أن يكون هذا العجز ناشئاً عن جناية الإنسان على نفسه كتعاطي المخدرات، أو جناية غيره عليه كالمطلقة العائلة لأطفالها.

ويدخل فيه فقط العجز الناشئ عن التفاعل الطبيعي للإنسان مع البيئة الاقتصادية بجميع محركاتها المعروفة.

وهذا النوع من الفقر لا يُمكن محاربته إلا بالقضاء على العناصر المكونة له، وهي العناصر التي تمد الفقر غالباً بعامل النمو لاسيما في الدول التي لا تعاني من حيث الإجمال شحا في مواردها المالية.

وأول هذه العناصر: شراهة المجتمع فيما يسمى بالاستهلاك:

وعند التأمل نجد أن الإليق تسميته بالإهلاك، حيث إن الأمر وصل إلى أن مقدرات الأرض أصبحت تنفق إلى غير بدل، وهذا هو الإهلاك، بعد أن كانت معظم مقدرات الأرض تخضع لعملية تدوير تجعلها غير منقطعة المنفعة على مر العصور. علماء مقاصد الشريعة يقسمون مطالب الإنسان في الأرض إلى ضروريات وهي ما يترتب على فقدها الهلاك وحاجيات وهي ما يترتب على فقدها شدة الضيق وتحسينات وهي ما يترتب على فقدها فقدان التوسعة والتزين بأطايب الحياة، ويجعلون لكل مطلب من هذه المطالب متممات لتصبح أقسام ما يحتاجه الإنسان في حياته ستة، ثلاثة رئيسة وثلاثة تبع لها، والمجتمع يكون مثاليا من الناحية الاقتصادية حين تكون مطالبه الحياتية وفق هذه القسمة، وأعني بالمثالية: أن مطالبه حين تكون وفق هذه القسمة فإنه يكون قادراً على المقاومة الذاتية لكل مصاعب الحياة المالية، كما أنه حينذاك يكون قابلا عند أي مشكلة اقتصادية طارئة للاستجابة لكل أنواع العلاج الدائم والمؤقت.

لكن الانفتاح المالي للمجتمعات حين لا يتزامن مع خطة للمحافظة على هذه الخارطة التي أوضحها علماء المقاصد، سوف ينتج عنه ورم خبيث يصعب استئصاله في كل مطلب من هذه المطالب. فمع الانفتاح المالي تتسع دائرة الضروريات كثيراً لتشمل ما كان يُسمى بالأمس حاجيات وتصبح الحياة مستحيلة دون توفر الحاجيات التي كان فقدها بالأمس لا يؤدي إلا إلى شيء من الضيق. ثم تصبح كماليات الأمس وتحسيناته حاجات يؤدي فقدها إلى الضيق والعسر، وبالتالي يبتكر المجتمع النهم أموراً تحسينية لم تكن معروفة فيما مضى وربما لم تكن واردة في قاموس الأمة اللغوي.

ولا يتوقف هذا الأمر عند حد، فورم الضروريات يضل في نمو حتى يصل إلى الكماليات التي تنضم سريعا إلى دائرة ما يؤدي فقده إلى الهلكة والضياع، ويبتكر المجتمع حاجات جديدة وتحسينات غير متوقعة وهكذا إلى ما لا نهاية. وضيق مساحة الورقة تحول بيني وبين الاسترسال في ضرب الأمثلة لكن فطنة القارئ لن يبتعد عنها تصور مطالب المجتمع الحياتية هذه الأيام ومقارنتها بمطالبها قبل عشر سنوات ومقارنتها بما كان قبل عشر سنوات أخر، ليصل معي إلى حقيقة ملخصها أن التدفق المالي في مجتمعنا أدى إلى حركة استهلاكية جعلت من تحسينات الأمس ضروريات اليوم وهي حركة تقودها دائما الطبقات الثرية ساحبة وراءها كل مكونات المجتمع دون هوادة أو ترقب. وهو سير لا يعبأ بمن لا يطيق، فالجميع عليه أن يستسلم لنمو ورم الضروريات وورم الحاجيات ويوقن أن مطالبه لن يكون لها نهاية.

في بيئة كهذه لابد أن يوجد الفقر مهما عظم دخل الدولة ومهما عظم متوسط دخل الفرد في البلاد، فمن كان مرتبه الشهري عشرة آلاف ريال وهي تكفيه اليوم لن تكون كافية له غدا، لأن هذه العشرة إنما تكفيه لأنه مستغن عن الكثير من متطلبات الرفاهية التي سوف يغطيها في الغد القريب ورم الحاجيات والضروريات لتصبح مما لا يمكن الاستغناء عنه وهذا ما سيجعل ذلك الرجل القانع بعشرة الآلاف فقيرا أو على حافة الفقر.

الحقيقة المرة في تقديري أن هذه الصورة منطبقة على مجتمعنا في المملكة العربية السعودية، وما دام هذا الورم في نمو مستمر فإن جميعنا مهددون بالفقر والعوز أو على الأقل الحاجة الماسة. بل إنني لمست ممن التقيت بهم من بعض كبار الأثرياء أنهم يشتكون هم أيضا من قلة ذات اليد، وبعض الناس يكذبهم في شكواهم ويتندر بما يقولون، لكنني أتفهم مشكلتهم بشكل جيد فإن ما هو من متممات التحسينات عندنا قد أصبح عندهم ضرورياً.

المشكلة الأكبر في نظري أن جميع ما أشاهده من محاولات لعلاج الفقر والعوز والحاجة في بلادنا تتم بعيدا عن هذه النظرة، ولهذا لم تجد حتى الآن ولن تجدي بعد الآن أيضاً. فزيادة المرتبات ورفع الضمان الاجتماعي وإعطاء الإعانات وتسهيل القروض التنموية، كلها حلول غير ناجعة لأنها تبدأ بالطبقة الوسطى والفقيرة في المجتمع، وهاتان الطبقتان لا تقودان قطار الاستهلاك ولا تؤثران فيه.

الذي يحدث اليوم: أن البيت غائب عن الإنتاج وهو مشترٍ لكل ما يحتاجه ولهذا نجده محتاجاً إلى الوسطي النقدي في كل جرعة ماء يشربها وفي كل لقمة طعام يأكلها فضلاً عن لباسه وأثاثه

الحل يأتي ناجعاً ومفيداً وإن كان بطيئاً حين ينصب على الطبقات الثرية في المجتمع والتي تجلس وحدها في عربة قيادة قاطرة الاستهلاك ومن عندها يبدأ ورم الضرورات. أما كيف يكون علاج هذه الطبقة من داء الإهلاك والاستهلاك فأمر يحتاج إلى دراسة، المهم أن يقتنع الأطباء بهذا التشخيص المتواضع. ثم أعود إلى الحديث عن معالم البيئة المناسبة لحياة جرثومة الفقر وتكاثرها في بلادنا، فأقول: إن ثاني هذه المعالم هو: غياب البيت عن دور الإنتاجية الاقتصادية في المجتمع، وهي آفة أوجدها العديد من العوامل ليس في بلادنا وحسب بل في معظم بلاد العالم، فقد كان لإنتاج البيت معظم متطلبات حياته من طعام وشراب ولباس وأثاث آثار كبيرة جداً على الاقتصاد وعلى كل ما يؤثر في الاقتصاد من أخلاق وعادات وتقاليد.

فمن جهة اقتصادية كان البيت يقلل بإنتاجيته الحاجة إلى استخدام النقد من جهة أن الأسرة تقوم بإنتاج معظم ما تحتاجه من مواد استهلاكية، وأحياناً كثيرة كانت الأسرة تمتلك مصادر المواد الخام التي تحتاجها عملية الإنتاج كالمواشي والدواجن والمساحات الزراعية الصغيرة التي تفي بإنتاج متطلبات الأسرة، وفي حال عدم قدرة الأسرة إلى إنتاج سلعة ما أو عدم تملكها لمصادر إنتاجها فإنها تقوم بمقايضة منتجاتها مع أسر منتجة أخرى، وبذلك لا تكون بحاجة إلى استخدام الوسيط النقدي إلا في القليل من الحالات، وهذا الأمر مؤثر كبير في محافظة العملة النقدية على قوتها الشرائية، وهذا ما يفسر لنا قدرة الريال الواحد –مثال للعملة النقدية- قبل أربعين سنة على الوفاء بقيمة عدد من الحاجيات لا يشكل اليوم نصف قيمة أحدها.

بل إنه وفق دراسة لخصها فادي العجاجي في جريدة الرياض فإن كل 10000 ريالاً عام 1999 تساوي قدرتها الشرائية اليوم 5950 ريالاً. كما كان الإنتاج البيتي يجعل الأسرة هي المتحكمة في فرض العادات الاستهلاكية على أبنائها وبالتالي تكون تلك العادات في المجتمع بأسره صناعة محلية محضة ولا يخفى على أحد أثر العادات الاستهلاكية على مجموع الأخلاق والعادات والتقاليد وأثر كل ذلك في الحركة الاقتصادية بشكل عام.

الذي يحدث اليوم: أن البيت غائب عن الإنتاج وهو مشترٍ لكل ما يحتاجه ولهذا نجده محتاجاً إلى الوسطي النقدي في كل جرعة ماء يشربها وفي كل لقمة طعام يأكلها فضلاً عن لباسه وأثاثه، وهذا الطلب المكثف على العملة جعلها عالية القيمة جداً، ونستطيع أن نتعرف على قيمة العملة الحقيقية بمعرفة ما يمكن استبدالها به من سلع، فالسلعة هي القيمة الحقيقية للعملة، فكلما كانت العملة غالية ظهر عجزها أمام السلع المستهلكة وكلما كانت رخيصة ظهرت قوتها أمام السلع، وإذا كان هذا الكلام خلاف المتعارف عليه فذلك لأن العرف الجاري هو تقييم العملات بعملات أخر لكننا حين نقيمها بالسلع نصل حتماً إلى هذه النتيجة.

ويزيد من ضعف العملة أمام السلع المنتجة خارج البيت كون من حل محل البيت في الإنتاج شركات عالمية بعيدة جداً عن البيت المستهلك، الأمر الذي حتم وجود العديد من الوسطاء بين المنتج والمستهلك وهو ما يجعل عبء تكلفة هذه الوساطة زائداً في قيمة السلعة.

وثقافة الاستهلاك يفرضها دائماً من بيده الإنتاج، وحين تنحى البيت عن هذه المهمة أو نُحي عنها حلت الشركات العالمية المنتجة محله، وأصبحت تتسابق في ابتكار السلع، أو تطوير شكل السلعة الواحدة وصناعة مشتقات منها وابتكار فنون من الدعاية للمنتجات الجديدة، وأصبحت مهمة البيوت هي التسابق على اقتناء تلك المنتجات للرفاهية في بداية الأمر ثم لا تلبث أن يصبح وجودها عادة استهلاكية تصل بها إلى حد الضرورة.

هذه البيئة مناسبة جداً لتغذية جرثومة الفقر فهي بيئة لا حد فيها للغلاء وبذلك لا تبشر أبدا بتوقف نشوء المجتمعات الفقيرة التي يتصاحب تكونها عادة مع الغلاء وكثرة الاستهلاك. الحلول التقليدية للغلاء تنصب عادة على فرض معونات على السلع الضرورية أو رفع إعانات الفقراء ورواتب الموظفين، وهي حلول ثبت بما لا يدع مجالاً للشك عدم نجاحها بل ارتدادها على الفقراء بشكل يجعل الأمر أشد ضرراً من حال عدمها. وقد يظن البعض أنني أدعو إلى محال وهو إلغاء المجتمع المتمدن والعودة إلى المجتمع القروي أو البدوي، وهذا القول على فرض وجوده ناشي عن فهم خاطئ للمدنية ينبغي مراجعته. إنما أدعو إلى عودة البيت للإنتاج قروياً كان أم مدنياً، وإلا فإن قطار الرأسمالية السريع سوف يلقي بالكثيرين كل يوم إلى مهالك الفقر بينما يظل متجهاً بمن معه نحو الهاوية.

خنق الرأسمالية: العنصر الثالث من عناصر البيئة المكونة للفقر:

النظم الرأسمالية التي تسربت لجميع الدول الإسلامية وكانت سببا رئيسا في تغذية الفقر بين شعوبها، وأعتقد أن مثل هذه الأنظمة تسربت أيضا إلى بلادنا وهي الآن تتسبب في تكاثر عدد الفقراء يوما بعد يوم. صحيح أن أثر هذه الأنظمة على الفقر لدينا يبدو للرائي بطيئا، وسر ذلك كون الدولة ولله الحمد تتمتع بدخل قوي جداً يعيق حركة تغلغل الوباء الرأسمالي إلى أعمق المجتمع لكنه مع الزمن يصل إليها ومن ثم يحدث أثراً بالغاً في تلك الأعماق لا يلبث أن يطفو غثاؤه على السطح.

أما الدول ذات المداخيل الضعيفة فإن الرأسمالية تتكفل بمضاعفة أعداد الفقراء فيها في كل يوم مرة أو مرتين. من التقاليد الرأسمالية التي دخلت إلى بلادنا وكان لها أثر واضح في إنشاء أولى لبنات الفقر في مجتمعنا بعد أن ودعناه فترة من الزمن حين توحدت الدولة وكثر خيرها: النظام البنكي بصورته الأوروبية الربوية، وقبل أن أمضي في بيان علاقته بالفقر أنبه إلى أن هذا النظام في طريقه للتصحيح بعد أن برزت المصرفية الإسلامية كقوة تستطيع أن تقدم لكبار المودعين ميزات أكبر وضمانات أفضل مما تقدمه المصرفية التقليدية، مع ملاحظة أن المصرفية الجديدة ما تزال في حاجة إلى صبغة إسلامية أكثر ظهوراً.

المصرفية التقليدية أعطت رأس المال الذي يوصف بكونه جبانا ذريعة قوية للجبن فهو في ظلها يحقق أرباحا منتظمة ومضمونة وبذلك لن يكون في حاجة إلى النزول إلى ميدان العمل إلا حين يحصل على أرباح تفوق بكثير أرباحه المصرفية مع ضمانات تجعل المغامرة المالية شبه معدومة، وهذه الذريعة كانت سببا في غياب المال الوطني عن التنمية في سوق الأبحاث والصناعات لأنه يجد مجالا أكثر ربحا وأقل مخاطرة في الاستيراد أو العقار أو الأسهم أو السندات أو تجارة العملة وهي أسواق تقل الحاجة معها أو ربما تنعدم إلى اليد العاملة.

كما يساهم في زيادة الأسعار وضعف قدرات العملة أمام السلع الاستهلاكية. كما أن المصارف أيضا تأخذ على عاتقها تزيين عملية الاستهلاك في السلع التحسينية الغالية الثمن عن طريق تيسير قروض شرائها الأمر الذي يؤدي إلى انسياق المجتمع بأسره إلى مواصلة تجديد احتياجاتهم من هذه السلع حتى ينتقل اقتناؤها من كونه أمرا تحسينيا إلى ضرورة حياتية، وهو الأمر الذي يصير كل أصحاب الدخول المحدودة من المواطنين أشبه ما يكونون أجراء لدى البنوك يقدمون لهن ما يزيد أحياناً كثيرة على نصف مداخيلهم التي لن تعود بعد الوفاء بمطالب البنوك لتفي بمطالب الأسرة الضرورية من أجرة سكن أو مصاريف تقتضيها رعاية أسرهم رعاية كاملة.

أدعو هؤلاء الخبراء إلى الانفتاح على المدرسة الاقتصادية الشرعية وعدم التعامل معها وفق أحكام مسبقة وانطباعات بعيدة عن الواقعية.

كما أن تدخل المصارف في حياة الناس الاستهلاكية يعد سبباً أولاً في كثرة الطلب على السلع التحسينية الغالية مما يسهم بشكل واضح في زيادة أسعارها يوما بعد يوم حتى إننا حين نتتبع رسما بيانيا لأسعار تلك السلع منذ ثلاثين سنة مثلا لا نجد أنها انخفضت عاما من الأعوام بل لا نجد أنها توقفت عن النمو فيما يُعرف باستقرار السلع. وهذا الأمر –وهو المؤسف حقا- لم تقم المصرفية الإسلامية حتى اليوم بتقديم علاج له، بل على العكس ساهم ما يُسمى بالتورق المصرفي الميسر في تأجيج هذا الإقبال على الاستهلاك، وتبنته البنوك لأنه يقدم لها مكاسب أكثر ريعا وأكثر ضمانات من الفائدة الخالصة على القروض مما جعل المصارف التقليدية تجعل نوافذها مشرعة لعمليات التورق الإسلامية.

في هذا المقال القصير لا يمكن إلا أن نقدم مثالا مجردا على القيم والنظم الرأسمالية التي أسهمت في رعاية جرثومة الفقر في بلادنا، وإلا فالخطب أكبر. والعجيب أن هذه القيم لا يوجد مؤشراً إلى أنها في الطريق للزوال بل إننا نسمع عن السير وراء إنزال منتجات رأسمالية أخر إلى نظامنا الاقتصادي بشكل أكبر من وضعها المتواضع الآن كالرهن العقاري وسوق السندات وهما الأمران اللذان يقول المتخصصون إنهما كونا مع البنوك مثلث النكبة الاقتصادية التي كادت تطيح بالمؤسسة الاقتصادية الأمريكية وما زالت آثار أضرارها تنهك المواطن الأمريكي.

ولعل كون الخبراء الموكل إليهم إدارة دفة الاقتصاد في بلادنا من مخرجات المدرسة الاقتصادية الغربية هو ما أثر في تبني هذا المنهج في معالجة مشاكلنا المالية، ولهذا فإنني أدعو هؤلاء الخبراء إلى الانفتاح على المدرسة الاقتصادية الشرعية وعدم التعامل معها وفق أحكام مسبقة وانطباعات بعيدة عن الواقعية.

بل ينبغي المساهمة في تبني الحل الإسلامي لمشكلاتنا المالية والمساهمة في تقديم البدائل الشرعية للمنتجات الاقتصادية التقليدية، لأن بلادنا وهي النظام الإسلامي الوحيد في العالم يجب أن تكون هي المتبنية للحل الإسلامي لجميع مشكلات العالم، ليس في الاقتصاد وحسب بل في التربية والاجتماع والعدالة وكل ما يهم البشرية.

,شارك المنشور مع أصدقائك

اشترك في النشرة البريدية عبر التليغرام ليصلك كل جديدنا

اشترك الان
التعليقات (0)
ادرج تعليق

الرجاء تصحيح الأخطاء التالية :
{{ error }}

مقالات مميزة في غصن

2019-11-20 | مقالات غصن

الورقة الخامسة: أخطاء شائعة في استخدام نموذج العمل

قراءة المزيد
2019-11-20 | مقالات غصن

الورقة الرابعة: مصادر الإيرادات

قراءة المزيد
2019-11-20 | مقالات غصن

الورقة الثالثة: قنوات التواصل: العلاقة مع العملاء

قراءة المزيد
2019-11-20 | مقالات غصن

الورقة الثانية: تحديد الجمهور: القيمة المضافة

قراءة المزيد
2019-11-20 | مقالات غصن

الورقة الأولى: عرض نموذج العمل مع مثال توضحي

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

تجربة منهاج ( أنوس ) في غرس القيم

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

تجارب إثرائية: مشروع (مركز بيوتنا) لجمعية البر الخيرية بالمذنب

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

مشاريع مؤسسة محمد وعبد الله إبراهيم السبيعي الخيرية

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

تجارب إثرائية: أُسَرٌ تودع الفقر: "نون أنموذجا": المستودع الخيري بجدة

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

تجارب إثرائية: لا نطعمك سمكة بل نعلمك اصطيادها: جمعية البر الخيرية الأحساء

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

تجارب إثرائية: مشروع (مهنة لها): جمعية الريان الخيرية بوادي جازان

قراءة المزيد
2018-10-21 | مقالات غصن

التجربة الرابعة: مشاريع مبادرة باب رزق جميل

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

التجربة الثالثة: مشروع بارعة

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

التجربة الثانية: تأهيل الأسر الفقيرة تعليمياً

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

التجربة الأولى: مبادرة التوطين بالتنمية

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

الورقة الثالثة: التأصيل الشرعي لتوعية وتأهيل الفقير

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

الورقة الثانية: الخصائص النفسية والاجتماعية للفقير

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

الورقة الأولى: حقوق الفقير التي كفلها الشرع والنظام

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

تجربة قسم التوعية الاسلامية بإدارة تعليم ينبع

قراءة المزيد
2018-10-18 | مقالات غصن

تجربة ملتقى الشبل المسلم

قراءة المزيد